كتاب «الأهالي أسرى الحرب» يرفع اللثام عن واقع أسرى المستعمرات الفرنسية في الحرب العالمية الثانية
المعطي قبال
ظنت أرميل مابون مثلما كان يعتقد الكثيرون أن جميع الأسرى كانوا معتقلين في ألمانيا. لكن بتصفح الأرشيفات اكتشفت أن المنحدرين من المستعمرات السابقة، الذين انتشلوا من المزارع والأحراش، أقفل عليهم، بالعكس، في فرنسا التي كانت ترزح تحت الاستعمار الألماني. لكشف هذه الحقيقة لجمهور عريض، انكبت أرميل مابون على كتابة فيلم وثائقي، أخرجته فيولين دوجوا روبان جمعت فيه شهادات الأحياء من الأسرى الذين وقعوا في أيادي القوات الألمانية داخل التراب الفرنسي. السؤال الرئيسي الذي يعتبر الشاغل الرئيسي لموضوع الكتاب هو: أي موقف لفرنسا التي كانت تحذوها رغبة الهيمنة وتوجد في نفس الوقت تحت السيادة الألمانية تجاه مجنديها المنحدرين من مستعمراتها القديمة؟
حجبت محرقة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية مآسي شعوب أخرى جند أفرادها بالقوة قبل دفعهم، وبلا رجعة أحيانا، إلى جبهات القتال. تألقت ما كان يطلق عليها «الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية» في أساليب تجنيد ما أسمتهم «الأهالي» Les Indigènes، الذين كانوا رعايا فرنسيين، لكن من دون أي حقوق مدنية. كان وضعهم على شاكلة دواب مشمرة في الصفوف الأمامية بالبنادق والسواطير. لكن التاريخ لم يحفظ لذكرهم، بعد نهاية الحرب الكونية الأولى والثانية، سوى شذرات باهتة. يبقى فيلم «الأهالي» للمخرج الفرنسي-الجزائري رشيد بوشارب بالكاد وثيقة مصورة هامة للمجندين من المغاربيين والأفارقة بالقوة والسيف في حرب التحرير ضد الاحتلال الألماني لفرنسا. لكن إسهامات أبحاث ودراسات تاريخية وسياسية بمستوى وازن في هذا الموضوع، الذي يهم النسيان وحق الذاكرة والتذكر، جاءت في العقود الأخيرة لرد الاعتبار لضحايا الجور والنسيان. بعد أبحاث محمد حربي، بانجامان ستورا، باسكال بلانشار وآخرين، بعد الأشرطة الوثائقية : «التاريخ المنسي، المشاة السنغاليون»، لآلن دو سيدوي وإيريك ديرو، «المشاة المالغاش» للمخرجين تييري ديبوا وبيرنار سيمون، «معسكر تياروي» لعصمان سيمبان، «تقاعد الأهالي» لفرديريك شينياك، وقعت فيولين دوجوا روبان بمعية أرميل مابون، فيلم «منسيو وضحايا الخيانة. أسرى الحرب الكولونياليون والمنحدرون من شمال إفريقيا». غير أن أرميل مابون دفعت بالبحث شأوا بعيدا لما تسلمت عام 1987 من صديقة، عملت مساعدة اجتماعية بالمصلحة الكولونيالية بمدينة بوردو خلال الحرب العالمية الثانية، كيسا من الأرشيفات، اكتشفت في طياته المصير الذي خصصته الإمبراطورية الفرنسية لأسرى الحرب المنحدرين من المستعمرات القديمة، وخاصة من شمال إفريقيا. ظنت أرميل مابون مثل ما كان يعتقد الكثيرون أن جميع الأسرى كانوا معتقلين في ألمانيا. لكن بتصفح الأرشيفات اكتشفت أن المنحدرين من المستعمرات السابقة، الذين انتشلوا من المزارع والأحراش، أقفل عليهم، بالعكس، في فرنسا التي كانت ترزح تحت الاستعمار الألماني. لكشف هذه الحقيقة لجمهور عريض، انكبت أرميل مابون على كتابة فيلم وثائقي، أخرجته فيولين دوجوا روبان جمعت فيه شهادات الأحياء من الأسرى الذين وقعوا في أيادي القوات الألمانية داخل التراب الفرنسي. السؤال الرئيسي الذي يعتبر الشاغل الرئيسي لموضوع الكتاب هو: أي موقف لفرنسا التي كانت تحذوها رغبة الهيمنة وتوجد في نفس الوقت تحت السيادة الألمانية تجاه مجنديها المنحدرين من مستعمراتها القديمة؟
الإمبراطورية الفرنسية في غمار الحرب
جندت فرنسا كل ما أمكنها من الطاقات البشرية للدفاع عن إمبراطوريتها. في الحرب الكونية الأولى، وإن بلغت نسبة المجندين من الفرنسيين 20%، فإن عدد الأهالي كان أقل من ذلك، إذ بلغ 545000 جندي، أي بنسبة 1% من مجموع سكان المستعمرات، لكن مع تمايزات حسب أصول المجندين: من 1,3 إلى 3% بالنسبة للأفارقة، و4% بالنسبة للمغاربيين. غير أن الطاقة الحربية الكولونيالية التي تمت تعبئتها في هذه الحرب كانت في غاية الأهمية، إذ قدر عدد الجنود الذين كانوا في حالة تعبئة في بلدان ما كان يسمى بما وراء البحار بـ 000 200 جندي، ضمنهم 140000 من شمال إفريقيا. أما في «الميتروبول» فمن بين 740000 مجند، تم توزيع 10000 من «الأهالي»، حسب أصولهم، على الشكل التالي: 33000 من أصل جزائري، 9400 من المغرب، 7000 تونسي، 24000 من إفريقيا الغربية، 6000 من إفريقيا الاستوائية، 14000 أناميين ( من وسط الفيتنام)، و6300 من المالغاش. إلى هذه الأعداد تضاف نسبة لا يستهان بها من العمال. إذ باستمرار الحرب، سلك الاستعمار، بمساعدة السلطات المحلية من قواد وباشاوات ورجالات السلطة، أسلوبا جديدا، ألا وهو التجنيد الإجباري للعمال لتضخيم وتقوية الجيش الفرنسي. لكن في إفريقيا تم استعمال العنف والإكراه للحصول على الحصص المطلوبة.
بعد نهاية الحرب، أبانت الأرقام عن سياسة التجنيد الاستعمارية، التي دفع بموجبها المغاربيون والأفارقة إلى المقصلة: فما بين 175000 جزائري، تم تجنيدهم ما بين 1914 و1918، قتل 35000 وجرح 72000. وترك المغاربة الذين ناهز عددهم 40000 جندي خسائر بشرية قدرت بـ 12000 قتيل، ومن بين 80000 تونسي، فُقِد 21000 . كانت خسارة المشاة المنحدرين من المستعمرات الفرنسية أكثر بكثير من خسارة من هم من أصل فرنسي.
باسم نقاء الدم
خلف احتكاك المجندين المغاربيين والأفارقة بالمواطنين الفرنسيين صدى طيبا، حيث اعترفوا لهم بالشجاعة، والانضباط، والتفاني، دون الحديث عن العلاقات الغرامية التي ربطت بعض الفرنسيات بهؤلاء المجندين، الشيء الذي لم تستحسنه السلطات التي دافعت عن عدم الاختلاط بدعوى «نقاء الدم». كان من نتائج فوز فرنسا في الحرب الكونية الأولى احتلال منطقة الراين الألمانية من طرف جنود سود عام 1919، وهي واقعة كان لها أثر صادم على المدنيين والعسكريين الألمان، الشيء الذي دفع بألمانيا إلى رفع شكوى لدى الهيئات الدولية، ناعتة فرنسا بـ«عدو للحضارة». وقد أرخت الصحافة الألمانية بالمناسبة العنان لتعاليقها الحاقدة ضد ما أسمته «لا إنسانية السلطات الفرنسية المحتلة، وخاصة وحشية جنود المستعمرات الذين يرهبون نساء الراين اللائي لا حول لهن أمام الهمجية الجنسية لهؤلاء الوحوش البشرية، هؤلاء الذئاب السوداء، هذه الحيوانات البشرية، قردة القارة السوداء، الذين سيتولد عنهم «العار الأسود»، die schwarze schande. تشير المؤلفة إلى أن هتلر استلهم هذه الواقعة لتأليف كتاب «كفاحي».
لما تأكد لفرنسا، مع اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939، ضعف إمكانياتها البشرية والعسكرية، سنت سياسة تجنيد المزيد من الجنود في المستعمرات الفرنسية. هكذا جند 19362 شخصا من الهند-الصينية نقلوا إلى فرنسا على متن 14 باخرة. أما إفريقيا الشمالية فـ«تبرعت» على جبهات القتال بـ15784 مغربيا و6222 جزائريا. خلال العمليات التي دامت من مارس إلى يونيو 1940 شكلت سبع وحدات، من بينها وحدة مغربية. في 10 ماي، قام الألمان بهجوم كاسح هزمت على إثره الجنود الفرنسية. غادرت الحكومة باريس لتستقر في بوردو. في 17 يونيو تقلد الماريشال بيتان مقاليد الحكم ليقبل بشروط الهدنة التي أملتها ألمانيا. رفض الجنرال ديغول الاعتراف بالهزيمة في نداء 18 يونيو الشهير. من مخلفات الهدنة التي قبل بها نظام فيشي تفكيك الجيش مع تقليص عدده إلى 100000 جندي، تنحصر مهمتهم في حماية الأمن الوطني. أما وحدات الجيش الوافدة من المستعمرات الفرنسية فقد أرسل البعض منها إلى بلدانها الأصلية. ونتيجة الاحتلال الألماني، تحولت المستعمرات إلى قطب للتجاذب بين نظام فيشي وأنصار فرنسا الحرة.
ما بين الموت والأسر
في هذه المواجهات، وإن فقد أزيد من 14000 جندي من المشاة وجرح 42000 فإن عدد الأسرى، الذين اعتقلوا لمدة خمس سنوات، بلغ 1,8 مليون شخص (أرسل من بينهم إلى ألمانيا 1,5 مليون شخص، وفر أو حرر 20000 وسجن في فرنسا 100000)، وهم في الغالب شباب أو أرباب عائلات). ولأهداف دعائية، صور الألمان اللحظات الأولى لأسر «الأهالي». في هذا الاتجاه دعا وزير الدعاية الألمانية جوزيف غيبلز الجنرال روميل إلى المشاركة في إنجاز فيلم حربي بعنوان «انتصار الغرب» حيث انتشل جنودا سودا من معسكر للاعتقال للقيام بدور المهزومين.
وإن بقي «الأهالي» من أسرى الحرب داخل فرنسا، فإن الأغلبية نقلت إلى السجون الألمانية أو ما يسمى بـStalags. تؤكد الشهادات النادرة لأسرى هذه المعتقلات على الوضعية الرديئة، وخاصة على التجويع الذي عاشه هؤلاء الأسرى. كما أن وجود هؤلاء الأسرى «الملونين» (أفارقة، مغاربيون، أسيويون) ذكر الألمان بالمهانة التي تلقوها عام 1919 على يد المجندين المنحدرين من المستعمرات. وتشير الباحثة إلى أن ما أسماه الألمان «العار الأسود»، ترك آثاره على اللاوعي الجماعي للألمان. لذا رفضوا أن يطأ الأفارقة مجددا أرضهم مخافة تسرب «العدوى العرقية» والأمراض الاستوائية المعدية في أوساط المدنيين. الشيء الذي دفع بالسلطات الألمانية إلى ترحيل سجناء المستعمرات السابقة إلى فرنسا. عام 1941، أحصي 69053 أسيرا من المستعمرات السابقة، من بينهم 4397 أسيرا من شمال إفريقيا و15777 من السينغال، و3888 ملغاشيا، و2317 من الهند الصينية، و380 من المارتينيك، و2718 شخصا من دون أصول ! وإلى غاية 1943، سيتبين أن أعداد الأسرى من الفرنسيين انخفضت، فيما بقي عدد المغاربيين والأفارقة مرتفعا.
الجوع وداء السل والطاعون
تبقى شروط الحياة اليومية في هذه المعسكرات لا إنسانية حيث عرف فيها الأسرى الجوع، المرض، الوسخ، والتعسفات. في ملف الشروط الصحية، يقف البحث عند المأساة اليومية للسجناء المنحدرين من المستعمرات الفرنسية لتشخيص أنواع الأمراض ونتائجها: في معسكر إيرفو، عرفت الظروف الصحية للأسرى العرب الذين كانوا يعانون من سوء التغذية، ومن داء السل وضعها الخطير عام 1941 . بسان ميدار تم إحصاء 3900 حالة إصابة بأمراض داء السل والتنفس. كما عثر على حالات من الزهري، السيفيليس، والطاعون. وقد توفي 94 جنديا، كما سجلت 60 حالة وفاة في الأسبوع. وقد بلغ مجموع الوفيات في أوساط أسرى الحرب 18612 حالة في 30 أبريل 1944، توفي أغلبها بداء السل. غير أن هذا العدد الإجمالي لا يشمل أسرى شمال إفريقيا.
تطوعت العديد من الجمعيات لمساعدة الأسرى والتخفيف من بؤسهم المادي والمعنوي. وكان لعالمة الإثنولوجيا والمقاومة جيرمان تيليون دور كبير في مؤازرة الأسرى والرفع من معنوياتهم، بصفتها مراسلة أسرى. ومن بين الأشخاص الذين آزرتهم معنويا المغربيان عبد الله بن عبد السلام، الذي كان أسيرا بمعتقل تول، والسجين العربي. في رده على رسالة جيرمان تيليون، كتب عبد الله بن عبد السلام: «الآنسة جيرمان تيليون.. لا زلت في صحة جيدة. لم أتمكن من مراسلتك من قبل. لكنني أفكر فيك باستمرار، وقد أدخلت رسالتك على قلبي فرحة كبيرة. أرغب فعلا، إن لم يتسبب لك ذلك في أي إزعاج، أن تبعثي لي بالرزمة التي وعدتني بها، لأنني لم أتوصل بعد بالكسكس. إن أمكنك أيضا أن تبعثي لي بجوارب، شيئا من التبغ، صابونة وبعض السكر. لكن لا تحرمي نفسك من هذه الأغراض، لأن ذلك سيؤلمني. (...)». تمتعت جيرمان تيليون في أوساط الكثير من الأسرى بشعبية كبيرة إلى درجة أن أحد الأسرى طلب الزواج منها!
منسيو المساواة
بعد عرض فيلم «الأهالي» لرشيد بوشارب عام 2006، اكتشف جاك شيراك ومعه فرنسا إنكار الجميل الذي طال قدماء محاربي المستعمرات القديمة وخاصة مستعمرات شمال إفريقيا. إذ جمدت رواتبهم بحجة تخليهم عن الجنسية الفرنسية لصالح جنسية بلدانهم الأصل. وفي أفضل الحالات يتقاضى «الأهالي» ربع ما يتقاضاه الفرنسيون. هذا الوضع ما هو إلا استمرار لممارسة تمييزية كان معمولا بها أيام الاستعمار. تنطبق هذه الوضعية على 80000 شخص. غير أن حماسة وتأثر السياسيين والمجتمع لم يغيرا شيئا من وضعية قدماء المحاربين.
حكايات حب أقلقت سلطات الاستعمار
تآلفت حكايات حب حقيقية بين الأسرى ومراسلات الحرب، الشيء الذي أقلق سلطات الاستعمار الفرنسية لأن من شأن هذه الغراميات قلب العلاقات بين المستعمر والمستعمرين، حيث يمنع أي تقارب عرقي بين الأجناس. بعد أن تأكد لوزير العدل آنذاك زواج العمال المنحدرين من المستعمرات بفرنسيات، أرسل إلى نواب الجمهورية مذكرة تشير إلى أن هذه العلاقات «تحط من مجد فرنسا في أوساط «الأهالي»، كما يجب عدم السماح لهؤلاء بالبقاء في فرنسا «على خلفية البطالة المتفشية».. كما منعت فرنسا الاختلاط العرقي، مما يعني مراقبة صارمة للعلاقات التي يمكن أن تنشأ بين الفرنسيات والأسرى. لكن بالرغم من هذه القوانين الزجرية، تعلقت الكثير من الفرنسيات بالأسرى.
في رسالة بعثتها لجيرمان تيليون عام 1940، تبوح سيلفيان بحبها لجندي مغربي، استقبلته رفقة جنود آخرين في بيتها. ولما وقع أسيرا في لونغفي، بحثت عنه إلى درجة إصدار إعلانات في قسم المفقودين. طلبت سيلفيان مساعدة جيرمان تيليون للعثور على محبوبها! في حالات الاختلاط الجنسي بين الأسرى والفرنسيات، يؤدي الأطفال ثمن هذه العلاقة، إذ يلفظهم المجتمع في حالة ما لم تلفظهم العائلة. ويصبحون مادة استهزاء ومزح عنصري. فالأطفال الذين يولدون نتيجة هذه العلاقة بين الأسرى والفرنسيات يشوشون على الاستراتيجيات العسكرية والسياسية التي تسعى إلى الحفاظ على علاقات الخضوع والتمايز بين الشعوب. لأن الأطفال بحصولهم على الجنسية قد يحصلون على المساواة، وهو ما لا تقبله الأجهزة الإدارية الاستعمارية. بانتهاء الحرب، يطرح الأزواج المختلطون مشكلا سياسيا وسوسيولوجيا يمر أساسا عبر التنديد بالميز والتمييز، وهو ما لم تكن فرنسا مستعدة لقبوله.
كتاب الأسبوع
المعطي قبال
ظنت أرميل مابون مثلما كان يعتقد الكثيرون أن جميع الأسرى كانوا معتقلين في ألمانيا. لكن بتصفح الأرشيفات اكتشفت أن المنحدرين من المستعمرات السابقة، الذين انتشلوا من المزارع والأحراش، أقفل عليهم، بالعكس، في فرنسا التي كانت ترزح تحت الاستعمار الألماني. لكشف هذه الحقيقة لجمهور عريض، انكبت أرميل مابون على كتابة فيلم وثائقي، أخرجته فيولين دوجوا روبان جمعت فيه شهادات الأحياء من الأسرى الذين وقعوا في أيادي القوات الألمانية داخل التراب الفرنسي. السؤال الرئيسي الذي يعتبر الشاغل الرئيسي لموضوع الكتاب هو: أي موقف لفرنسا التي كانت تحذوها رغبة الهيمنة وتوجد في نفس الوقت تحت السيادة الألمانية تجاه مجنديها المنحدرين من مستعمراتها القديمة؟
حجبت محرقة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية مآسي شعوب أخرى جند أفرادها بالقوة قبل دفعهم، وبلا رجعة أحيانا، إلى جبهات القتال. تألقت ما كان يطلق عليها «الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية» في أساليب تجنيد ما أسمتهم «الأهالي» Les Indigènes، الذين كانوا رعايا فرنسيين، لكن من دون أي حقوق مدنية. كان وضعهم على شاكلة دواب مشمرة في الصفوف الأمامية بالبنادق والسواطير. لكن التاريخ لم يحفظ لذكرهم، بعد نهاية الحرب الكونية الأولى والثانية، سوى شذرات باهتة. يبقى فيلم «الأهالي» للمخرج الفرنسي-الجزائري رشيد بوشارب بالكاد وثيقة مصورة هامة للمجندين من المغاربيين والأفارقة بالقوة والسيف في حرب التحرير ضد الاحتلال الألماني لفرنسا. لكن إسهامات أبحاث ودراسات تاريخية وسياسية بمستوى وازن في هذا الموضوع، الذي يهم النسيان وحق الذاكرة والتذكر، جاءت في العقود الأخيرة لرد الاعتبار لضحايا الجور والنسيان. بعد أبحاث محمد حربي، بانجامان ستورا، باسكال بلانشار وآخرين، بعد الأشرطة الوثائقية : «التاريخ المنسي، المشاة السنغاليون»، لآلن دو سيدوي وإيريك ديرو، «المشاة المالغاش» للمخرجين تييري ديبوا وبيرنار سيمون، «معسكر تياروي» لعصمان سيمبان، «تقاعد الأهالي» لفرديريك شينياك، وقعت فيولين دوجوا روبان بمعية أرميل مابون، فيلم «منسيو وضحايا الخيانة. أسرى الحرب الكولونياليون والمنحدرون من شمال إفريقيا». غير أن أرميل مابون دفعت بالبحث شأوا بعيدا لما تسلمت عام 1987 من صديقة، عملت مساعدة اجتماعية بالمصلحة الكولونيالية بمدينة بوردو خلال الحرب العالمية الثانية، كيسا من الأرشيفات، اكتشفت في طياته المصير الذي خصصته الإمبراطورية الفرنسية لأسرى الحرب المنحدرين من المستعمرات القديمة، وخاصة من شمال إفريقيا. ظنت أرميل مابون مثل ما كان يعتقد الكثيرون أن جميع الأسرى كانوا معتقلين في ألمانيا. لكن بتصفح الأرشيفات اكتشفت أن المنحدرين من المستعمرات السابقة، الذين انتشلوا من المزارع والأحراش، أقفل عليهم، بالعكس، في فرنسا التي كانت ترزح تحت الاستعمار الألماني. لكشف هذه الحقيقة لجمهور عريض، انكبت أرميل مابون على كتابة فيلم وثائقي، أخرجته فيولين دوجوا روبان جمعت فيه شهادات الأحياء من الأسرى الذين وقعوا في أيادي القوات الألمانية داخل التراب الفرنسي. السؤال الرئيسي الذي يعتبر الشاغل الرئيسي لموضوع الكتاب هو: أي موقف لفرنسا التي كانت تحذوها رغبة الهيمنة وتوجد في نفس الوقت تحت السيادة الألمانية تجاه مجنديها المنحدرين من مستعمراتها القديمة؟
الإمبراطورية الفرنسية في غمار الحرب
جندت فرنسا كل ما أمكنها من الطاقات البشرية للدفاع عن إمبراطوريتها. في الحرب الكونية الأولى، وإن بلغت نسبة المجندين من الفرنسيين 20%، فإن عدد الأهالي كان أقل من ذلك، إذ بلغ 545000 جندي، أي بنسبة 1% من مجموع سكان المستعمرات، لكن مع تمايزات حسب أصول المجندين: من 1,3 إلى 3% بالنسبة للأفارقة، و4% بالنسبة للمغاربيين. غير أن الطاقة الحربية الكولونيالية التي تمت تعبئتها في هذه الحرب كانت في غاية الأهمية، إذ قدر عدد الجنود الذين كانوا في حالة تعبئة في بلدان ما كان يسمى بما وراء البحار بـ 000 200 جندي، ضمنهم 140000 من شمال إفريقيا. أما في «الميتروبول» فمن بين 740000 مجند، تم توزيع 10000 من «الأهالي»، حسب أصولهم، على الشكل التالي: 33000 من أصل جزائري، 9400 من المغرب، 7000 تونسي، 24000 من إفريقيا الغربية، 6000 من إفريقيا الاستوائية، 14000 أناميين ( من وسط الفيتنام)، و6300 من المالغاش. إلى هذه الأعداد تضاف نسبة لا يستهان بها من العمال. إذ باستمرار الحرب، سلك الاستعمار، بمساعدة السلطات المحلية من قواد وباشاوات ورجالات السلطة، أسلوبا جديدا، ألا وهو التجنيد الإجباري للعمال لتضخيم وتقوية الجيش الفرنسي. لكن في إفريقيا تم استعمال العنف والإكراه للحصول على الحصص المطلوبة.
بعد نهاية الحرب، أبانت الأرقام عن سياسة التجنيد الاستعمارية، التي دفع بموجبها المغاربيون والأفارقة إلى المقصلة: فما بين 175000 جزائري، تم تجنيدهم ما بين 1914 و1918، قتل 35000 وجرح 72000. وترك المغاربة الذين ناهز عددهم 40000 جندي خسائر بشرية قدرت بـ 12000 قتيل، ومن بين 80000 تونسي، فُقِد 21000 . كانت خسارة المشاة المنحدرين من المستعمرات الفرنسية أكثر بكثير من خسارة من هم من أصل فرنسي.
باسم نقاء الدم
خلف احتكاك المجندين المغاربيين والأفارقة بالمواطنين الفرنسيين صدى طيبا، حيث اعترفوا لهم بالشجاعة، والانضباط، والتفاني، دون الحديث عن العلاقات الغرامية التي ربطت بعض الفرنسيات بهؤلاء المجندين، الشيء الذي لم تستحسنه السلطات التي دافعت عن عدم الاختلاط بدعوى «نقاء الدم». كان من نتائج فوز فرنسا في الحرب الكونية الأولى احتلال منطقة الراين الألمانية من طرف جنود سود عام 1919، وهي واقعة كان لها أثر صادم على المدنيين والعسكريين الألمان، الشيء الذي دفع بألمانيا إلى رفع شكوى لدى الهيئات الدولية، ناعتة فرنسا بـ«عدو للحضارة». وقد أرخت الصحافة الألمانية بالمناسبة العنان لتعاليقها الحاقدة ضد ما أسمته «لا إنسانية السلطات الفرنسية المحتلة، وخاصة وحشية جنود المستعمرات الذين يرهبون نساء الراين اللائي لا حول لهن أمام الهمجية الجنسية لهؤلاء الوحوش البشرية، هؤلاء الذئاب السوداء، هذه الحيوانات البشرية، قردة القارة السوداء، الذين سيتولد عنهم «العار الأسود»، die schwarze schande. تشير المؤلفة إلى أن هتلر استلهم هذه الواقعة لتأليف كتاب «كفاحي».
لما تأكد لفرنسا، مع اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939، ضعف إمكانياتها البشرية والعسكرية، سنت سياسة تجنيد المزيد من الجنود في المستعمرات الفرنسية. هكذا جند 19362 شخصا من الهند-الصينية نقلوا إلى فرنسا على متن 14 باخرة. أما إفريقيا الشمالية فـ«تبرعت» على جبهات القتال بـ15784 مغربيا و6222 جزائريا. خلال العمليات التي دامت من مارس إلى يونيو 1940 شكلت سبع وحدات، من بينها وحدة مغربية. في 10 ماي، قام الألمان بهجوم كاسح هزمت على إثره الجنود الفرنسية. غادرت الحكومة باريس لتستقر في بوردو. في 17 يونيو تقلد الماريشال بيتان مقاليد الحكم ليقبل بشروط الهدنة التي أملتها ألمانيا. رفض الجنرال ديغول الاعتراف بالهزيمة في نداء 18 يونيو الشهير. من مخلفات الهدنة التي قبل بها نظام فيشي تفكيك الجيش مع تقليص عدده إلى 100000 جندي، تنحصر مهمتهم في حماية الأمن الوطني. أما وحدات الجيش الوافدة من المستعمرات الفرنسية فقد أرسل البعض منها إلى بلدانها الأصلية. ونتيجة الاحتلال الألماني، تحولت المستعمرات إلى قطب للتجاذب بين نظام فيشي وأنصار فرنسا الحرة.
ما بين الموت والأسر
في هذه المواجهات، وإن فقد أزيد من 14000 جندي من المشاة وجرح 42000 فإن عدد الأسرى، الذين اعتقلوا لمدة خمس سنوات، بلغ 1,8 مليون شخص (أرسل من بينهم إلى ألمانيا 1,5 مليون شخص، وفر أو حرر 20000 وسجن في فرنسا 100000)، وهم في الغالب شباب أو أرباب عائلات). ولأهداف دعائية، صور الألمان اللحظات الأولى لأسر «الأهالي». في هذا الاتجاه دعا وزير الدعاية الألمانية جوزيف غيبلز الجنرال روميل إلى المشاركة في إنجاز فيلم حربي بعنوان «انتصار الغرب» حيث انتشل جنودا سودا من معسكر للاعتقال للقيام بدور المهزومين.
وإن بقي «الأهالي» من أسرى الحرب داخل فرنسا، فإن الأغلبية نقلت إلى السجون الألمانية أو ما يسمى بـStalags. تؤكد الشهادات النادرة لأسرى هذه المعتقلات على الوضعية الرديئة، وخاصة على التجويع الذي عاشه هؤلاء الأسرى. كما أن وجود هؤلاء الأسرى «الملونين» (أفارقة، مغاربيون، أسيويون) ذكر الألمان بالمهانة التي تلقوها عام 1919 على يد المجندين المنحدرين من المستعمرات. وتشير الباحثة إلى أن ما أسماه الألمان «العار الأسود»، ترك آثاره على اللاوعي الجماعي للألمان. لذا رفضوا أن يطأ الأفارقة مجددا أرضهم مخافة تسرب «العدوى العرقية» والأمراض الاستوائية المعدية في أوساط المدنيين. الشيء الذي دفع بالسلطات الألمانية إلى ترحيل سجناء المستعمرات السابقة إلى فرنسا. عام 1941، أحصي 69053 أسيرا من المستعمرات السابقة، من بينهم 4397 أسيرا من شمال إفريقيا و15777 من السينغال، و3888 ملغاشيا، و2317 من الهند الصينية، و380 من المارتينيك، و2718 شخصا من دون أصول ! وإلى غاية 1943، سيتبين أن أعداد الأسرى من الفرنسيين انخفضت، فيما بقي عدد المغاربيين والأفارقة مرتفعا.
الجوع وداء السل والطاعون
تبقى شروط الحياة اليومية في هذه المعسكرات لا إنسانية حيث عرف فيها الأسرى الجوع، المرض، الوسخ، والتعسفات. في ملف الشروط الصحية، يقف البحث عند المأساة اليومية للسجناء المنحدرين من المستعمرات الفرنسية لتشخيص أنواع الأمراض ونتائجها: في معسكر إيرفو، عرفت الظروف الصحية للأسرى العرب الذين كانوا يعانون من سوء التغذية، ومن داء السل وضعها الخطير عام 1941 . بسان ميدار تم إحصاء 3900 حالة إصابة بأمراض داء السل والتنفس. كما عثر على حالات من الزهري، السيفيليس، والطاعون. وقد توفي 94 جنديا، كما سجلت 60 حالة وفاة في الأسبوع. وقد بلغ مجموع الوفيات في أوساط أسرى الحرب 18612 حالة في 30 أبريل 1944، توفي أغلبها بداء السل. غير أن هذا العدد الإجمالي لا يشمل أسرى شمال إفريقيا.
تطوعت العديد من الجمعيات لمساعدة الأسرى والتخفيف من بؤسهم المادي والمعنوي. وكان لعالمة الإثنولوجيا والمقاومة جيرمان تيليون دور كبير في مؤازرة الأسرى والرفع من معنوياتهم، بصفتها مراسلة أسرى. ومن بين الأشخاص الذين آزرتهم معنويا المغربيان عبد الله بن عبد السلام، الذي كان أسيرا بمعتقل تول، والسجين العربي. في رده على رسالة جيرمان تيليون، كتب عبد الله بن عبد السلام: «الآنسة جيرمان تيليون.. لا زلت في صحة جيدة. لم أتمكن من مراسلتك من قبل. لكنني أفكر فيك باستمرار، وقد أدخلت رسالتك على قلبي فرحة كبيرة. أرغب فعلا، إن لم يتسبب لك ذلك في أي إزعاج، أن تبعثي لي بالرزمة التي وعدتني بها، لأنني لم أتوصل بعد بالكسكس. إن أمكنك أيضا أن تبعثي لي بجوارب، شيئا من التبغ، صابونة وبعض السكر. لكن لا تحرمي نفسك من هذه الأغراض، لأن ذلك سيؤلمني. (...)». تمتعت جيرمان تيليون في أوساط الكثير من الأسرى بشعبية كبيرة إلى درجة أن أحد الأسرى طلب الزواج منها!
منسيو المساواة
بعد عرض فيلم «الأهالي» لرشيد بوشارب عام 2006، اكتشف جاك شيراك ومعه فرنسا إنكار الجميل الذي طال قدماء محاربي المستعمرات القديمة وخاصة مستعمرات شمال إفريقيا. إذ جمدت رواتبهم بحجة تخليهم عن الجنسية الفرنسية لصالح جنسية بلدانهم الأصل. وفي أفضل الحالات يتقاضى «الأهالي» ربع ما يتقاضاه الفرنسيون. هذا الوضع ما هو إلا استمرار لممارسة تمييزية كان معمولا بها أيام الاستعمار. تنطبق هذه الوضعية على 80000 شخص. غير أن حماسة وتأثر السياسيين والمجتمع لم يغيرا شيئا من وضعية قدماء المحاربين.
حكايات حب أقلقت سلطات الاستعمار
تآلفت حكايات حب حقيقية بين الأسرى ومراسلات الحرب، الشيء الذي أقلق سلطات الاستعمار الفرنسية لأن من شأن هذه الغراميات قلب العلاقات بين المستعمر والمستعمرين، حيث يمنع أي تقارب عرقي بين الأجناس. بعد أن تأكد لوزير العدل آنذاك زواج العمال المنحدرين من المستعمرات بفرنسيات، أرسل إلى نواب الجمهورية مذكرة تشير إلى أن هذه العلاقات «تحط من مجد فرنسا في أوساط «الأهالي»، كما يجب عدم السماح لهؤلاء بالبقاء في فرنسا «على خلفية البطالة المتفشية».. كما منعت فرنسا الاختلاط العرقي، مما يعني مراقبة صارمة للعلاقات التي يمكن أن تنشأ بين الفرنسيات والأسرى. لكن بالرغم من هذه القوانين الزجرية، تعلقت الكثير من الفرنسيات بالأسرى.
في رسالة بعثتها لجيرمان تيليون عام 1940، تبوح سيلفيان بحبها لجندي مغربي، استقبلته رفقة جنود آخرين في بيتها. ولما وقع أسيرا في لونغفي، بحثت عنه إلى درجة إصدار إعلانات في قسم المفقودين. طلبت سيلفيان مساعدة جيرمان تيليون للعثور على محبوبها! في حالات الاختلاط الجنسي بين الأسرى والفرنسيات، يؤدي الأطفال ثمن هذه العلاقة، إذ يلفظهم المجتمع في حالة ما لم تلفظهم العائلة. ويصبحون مادة استهزاء ومزح عنصري. فالأطفال الذين يولدون نتيجة هذه العلاقة بين الأسرى والفرنسيات يشوشون على الاستراتيجيات العسكرية والسياسية التي تسعى إلى الحفاظ على علاقات الخضوع والتمايز بين الشعوب. لأن الأطفال بحصولهم على الجنسية قد يحصلون على المساواة، وهو ما لا تقبله الأجهزة الإدارية الاستعمارية. بانتهاء الحرب، يطرح الأزواج المختلطون مشكلا سياسيا وسوسيولوجيا يمر أساسا عبر التنديد بالميز والتمييز، وهو ما لم تكن فرنسا مستعدة لقبوله.
كتاب الأسبوع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق