بقلم الأستاذ:إبراهيم مومي
ان المستقرئ لتراث الريف التليد في عمقه التاريخي سيتقاطع لا محالة مع ما انتهى إليه عالم الإجتماع الآسيوي داريوش شايغان في كتابه أوهام الهوية، عندما قال:"و نأسف لفقدان الهوية الذي يهدد الحضارات التقليدية
،كما نرثي لحال هذه الحياة المتفاوتة التي نحياها، هذه الحالة القريبة من الشيزوفرينيا."
فماذا يقصد بالتراث؟ وما علاقة التراث بالهوية الوطنية؟ وما موقع تراث الريف (الحضارة الأمازيغية) ضمن سياسة إعداد التراب الوطني؟ ثم ما مصير التراث الممتد(أي التراث خارج الحدود الوطنية)؟
جاء في التصميم الوطني لإعداد التراب:خلاصة: "لا يقتصر مفهوم التراث على الذاكرة التي تشكلت لدينا عن الحقب الماضية أو عن المواطن والمشاهد المتميزة التي تزخر بها طبيعتنا، فالتراث يشمل كل الموروثات الحضارية التي تراكمت عبر التاريخ، و ذلك كيفما كان شكلها،و هكذا، و على سبيل المثال، فان التراث اللامادي أو اللامرئي يشكل أحد المكونات الأكثر أهمية، ويتعلق الأمر بالثقافة والمهارات وأساليب العيش" .بمعنى أن التراث مفهوم واسع، يشمل التراث الطبيعي و التراث الثقافي بمكوناته الاجتماعية و الفكرية و الفنية و التاريخية و العمرانية، و جوانبه المادية و المعنوية و أشكاله القارة و المنقولة" .
من خلال هذا التعريف لمفهوم التراث نستنتج أن هذا الأخير هو عمق الهوية الوطنية مادام يتأسس على البعد الطبيعي والثقافي و الفني و الاجتماعي و التاريخي و العمراني، فلا يمكن أن نتصور هوية وطنية تفتقر الى إحدى هذه الركائز التي تسهم كل منها في تحديد معالم شخصية المواطن. و هذا المفهوم للهوية الوطنية ستتبناه سياسة إعداد التراب الوطني-لتتناقض معه كما سنبينه فيما سيأتي- عندما تعتبر أن المواطنة لا يمكن أن تكون بدون هوية، فهي مواطنة مغربية تتعمق جذورها في تاريخنا المتميز، و عليه فان مفهوم الموروث الثقافي و التراث يعتبر من الأسس الجوهرية التي يرتكز عليها إعداد التراب . و من هنا ستعمل سياسة إعداد التراب الوطني على الدعوة الى تثمين التراث و اعتباره هدفا من أهدافها. بل تطوير هذا التراث و اعتباره اختيارا من اختياراتها الموجهة لسياستها في إعداد التراب . (أنظر الرسم البياني 30 ص53, ضمن التصميم الوطني لإعداد التراب، خلاصة).
لكن من أين يبدأ هذا التراث تاريخيا حتى نشرع في تنزيل و إعمال قاعدتي التثمين و التطوير؟
يجيبنا التصميم الوطني لإعداد التراب :خلاصة:" تشكل المملكة المغربية دولة تضرب جذورها في أعماق تاريخ يبتدئ مع تأسيس مدينة فاس في أواخر القرن الثامن الميلادي..." هذا التأطير الزمني لتاريخ المغرب الذي وصل –بتعبير المؤرخ المقتدرعلي الإدريسي- إلى درجة "اليقين الإيديولوجي" أقصى عهودا تاريخية موغلة في القدم كتلك التي تعود الى عهد الماوريين أو النوميديين. و هي الشعوب الأمازيغية التي اشتهر بدراستها المؤرخ والرحالة الإغريقي سطرابون (60ق.م-20ق.م)صاحب كتاب "الجغرافيا" ؛ و لن نكون متشددين إذا قلنا إن تاريخ هذه الشعوب تعود إلى عهد الباليولتيك (العصر الحجري القديم)و النيولتيك (العصر الحجري الحديث) فهناك مخلفات أثرية كثيرة في شمال إفريقيا تؤكد نيوليثية الشعوب الأصلية؛ أي اعتمادها على نظام اجتماعي معين في تدبير شؤون حياتها.فمثلا في المغرب اكتشفت قرية ما قبل تاريخية، تقع فوق منحدر صخري و تشرف على وادي بهت (هذه القرية توجد بضواحي مدينة سيدي سليمان)؛ و قد ارتقت الشعوب الأمازيغية سلم الحضارة بتأسيسها لأنظمة سياسية عبارة عن مملكات شهد التاريخ بتعاقدها السياسي ليس مع شعوبها فحسب بل مع دول و امبراطوريات متصارعة معها. من مثل تلك النقائش الإيبيكرافية* البالغ عددها خمسة عشر نقيشة درسها بمنهاج علمي رصين ذ. مصطفى أعشي و هي عبارة عن معاهدات السلام بين الباكوات الأمازيغ و الرومان في موريطانيا الطنجية خلال القرنين الثاني و الثالث الميلاديين.
هذا التسييج التاريخي المعادي لمفهوم التراث و المخالف لمعنى الهوية الوطنية كما تم تحديدها آنفا لا نجده –كما يذكر المؤرخ المقتدر علي الإدريسي- في الخطاب الرسمي لدى تونس ؛ بل بالعكس هي تكرس ثلاثة آلاف سنة من التاريخ و الحضارة أما الجزائريين فقد اجتهدوا في إبراز دور الحقبة النوميدية باعتبارها مبتدأ الدولة الجزائرية، من أجل تأكيد أسبقية الدولة الجزائرية في التاريخ عن الدولة الفرنسية التي حاولت إنكار الوجود التاريخي للجزائر.
و من هنا نفهم سبب تغييب مكونات تراث الريف العريق من التمثيل الخرائطي في التصميم الوطني لإعداد التراب (أنظر الخريطة 87: مكونات التراث .ص 75) فلا تجد تمثيلا حقيقيا لمملكة النكور المندرسة قسرا و هي التي تأسست قبل إمارة فاس ب99 سنة أي مذ أن ولي حسان ابن النعمان الغساني على إفريقية من قبل عبد الملك ابن مروان سنة 73 هجرية . كما لا نجد تمثيلا خرائطيا لحاضرة المزمة التي يقول عنها الحسن بن محمد الوزان الفاسي المعروف ب"ليون الإفريقي": "و كانت هذه المدينة قديما في غاية الحضارة كثيرة السكان، دار مقام لأمير هذا الإقليم، لكنها دمرت ثلاث مرات..." وقد طال التهميش المدن المندرسة بتمسمان و الآثار الموحدية ببادس...وصولا الى المآثر الحديثة التي تشهد على الحقبة الاستعمارية كالمركز الإداري بأجدير لقائد حرب الريف التحريرية المجاهد البطل مولاي محند، و قلعة المستعمر الإسباني بأربعاء تاوريرت، و كل بنايات المهندس الإسباني "إمليو بلانكو ذي إساغا"، صاحب كتاب: "المساكن الريفية". كلها طالها التهميش و لم تنل من التثمين شيئا (باستثناء بعض بنايات المستعمر في ساحة فلوريدو) إضافة إلى منزل الأمير بأجدير و منزله بآيت قمرة و أربعاء تروغوت...أما التراث الشعبي الشفهي و ما يتصل به من أساليب العيش و نمط الثقافة الاجتماعية المميزة للشعب الأمازيغي على امتداد تاريخ حضارته فلا زال يلفها النسيان و يحاصرها التهميش.
أما التراث الممتد خارج الحدود السياسية للمغرب المعاصر فلا ندرك من درره شيئا ؛ إذ لا نعرف أي شيء عن إقامة مولاي محند بمنفاه السحيق بجزيرة لاريونيون " شاطو مورانج " بضواحي عاصمة الجزيرة سان دوني!!! كما لا نعرف شيئا عن منزل الأمير بقرية بلان دي بال ميست الذي يبعد بـ 70 كلم عن العاصمة سان دوني !!! و ماذا نعرف عن مصير إقامته بـ كاستيل فلوري!!! هل ندرك مصير منزل الأمير بمصر الذي كان يسكنه بالإيجار في 5 شارع قاسم أمين بحدائق القبة!!!؟ لا شك أن معرفة هذا التراث الممتد سيفتح آفاقا جديدة أمام البحث التاريخي و سيكشف عن خبايا تاريخ تعششت فيه ثقافة النسيان و الحصار.
إذا، نأمل أن يرفع هذا التهميش اللاحق بتراث الريف وأن يصار إلى توثيقه و تدوينه و ترميمه و تثمينه و تطويره حتى تستكمل الهوية الوطنية معالمها و يتقوى النسق الثقافي و التنموي ببلادنا ، و لن يتم هذا التوثيق و ذلك التثمين إلا إذا فتح المغرب أبواب تاريخه العريق و الممتد ، و حرر خطابه الرسمي من قيود تتصادم مع حقائق التاريخ و شواهد الواقع.
المراجع :
1- أوهام الهوية، داريوش شايغان،ص 5، ط1993,1م. دار الساقي، بيروت، لبنان.
2- التصميم الوطني لإعداد التراب:خلاصة،ص 75، 2003م، من منشورات مديرية إعداد التراب الوطني.
3- الميثاق الوطني لإعداد التراب،ص : 52
4- التصميم الوطني لإعداد التراب ، خلاصة،ص: 54
5- التصميم الوطني ....ص:5
6-علي الإدريسي،عبد الكريم الخطابي: التاريخ المعاصر، ص: 171.ط:1، دار النجاح الجديدة.
7-أ نظر آلبير عياش،تاريخ شمال إفريقيا القديم،ترجمة :عبد العزيز بل فايدة،ص: 14 ،ط:1 ،2008م،منشورات أمل للتاريخ و الثقافة و المجتمع.
8- نفسه ، ص: 16.
*: الإيبيكرافيا : هو علم يدرس الكتابات بمختلف أنواعها ، المنقوشة أو المكتوبة بالصباغة على الأحجار أو المعادن أو الطين أو الزجاج أو العظام أو الفسيفساء ، و تعتبر أحد المصادر الأساسية في دراسة التاريخ و الحضارة ."أنظر مصطفى أعشي ، مرجع سابق ،ص:7.
9- أنظر هذه المعادات في سلسلة نصوص و وثائق ، رقم:2،تأليف:مصطفى أعشي،من منشورات مركز الدراسات التاريخية و البيئية /المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، مطبعة المعارف الجديدة ، 2004م-الرباط.
10- انظر علي الإدريسي ، مرجع سابق ، ص: 171.
11- انظر الزياني ، الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور برا و بحرا ، تحقيق : عبد الكريم الفلالي ، نقلا عن : أحمد الطاهري ، إمارة بني صالح في بلاد نكور، ص:16،ط:1، 1998م.
12- وصف افريقيا ، ترجمة محمد حجي و محمد الأخضر ، ص:328، الجزء الأول ، ط:2،1983م، دار الغرب الإسلامي ، بيروت – لبنان .
13- يتميز كتاب المؤرخ المقتدر "علي الإدريسي" ، عبد الكريم الخطابي التاريخ المحاصر ، باقتحامه لهذه المساحة التاريخية التي تشددت فيها ثقافة النسيان. فهو أي الكتاب جدير بالاهتمام و الدراسة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق